الرئيس”الصالح” الدَّاهية و”قصة الصمود”
بقلم / أمين الوائلي
بينما انتظر خصومه أن يعلن “النهاية” ظهر في أفضل حالاته وهو يوطن نفسه:”والآن.. أبدأ”..
*نزقُ (قحطان الإخوان)
منطق الغزوات الحربية, بطولات الفيد’ و”عقدة فرويد” عندما تستذل أعناق الرجال!!
تحولات عميقة ودراماتيكية شهدها الأسبوع الأخير في سياق الأزمة اليمنية, لم تكن متوقعة لدى البعض. ومن توقع شيئا قريبا منها لم يتوقعها بهذه الطريقة وبآثارها المترتبة.
بطريقة ما.. حدث انكسار حاد في مسار الأزمة وسياقات الصراع السياسي المتداخل ضمنها. الخط العمودي, الذي تبدى وحيدا خلال الأسابيع الأولى كمسار للأحداث وتداعياتها واتجاه إجباري بنهاية حتمية حُددت سلفا (إسقاط النظام, الرحيل). هذا الاتجاه تبدد وانكسر الخط العمودي التصعيدي؛ الى مسارات أفقية استوعبت التصعيد بطريقة الكبح والتصعيد المضاد, واستهداف الفعل بردود أفعال ليست أقل منه على الإطلاق, قوة وأثرا.
*النزق.. الفرويدي!
حدث أن تفلت النزق وانفلتت العبارات (الحربية) في صورة بيانات تحشيدية تستعيد لغة الغزوات وتحرض على الغزو والزحف في استنطاق حي لخيال مفتون بالمعارك والبطولات الجهادية المضللة. كان هذا المعطى شديد الدلالة والخطورة معا. وقع في نفوس الشباب المعتصمين- المستقلين المتشككين خصوصا- وفي نفوس اليمنيين أو معظمهم, موقع الريبة والإدانة.
واستحضر البعض مشاهد الجمعة الدامية وكارثية الحشد باتجاه جمعة أكبر وأكثر دموية, وانتحارية تماما. فضلا عن أن إذكاء الخيارات والخيالات الحربية في هذا التوقيت يمثل حالة قصوى من الانتهازية والتغرير, وإقحاما للشباب في معركة أو محرقة جهنمية قد تدخل البلاد برمتها في فتنة ملعونة بلا نهاية.
وليس هذا وحده ما أحدثه النزق, إضافة الى ذلك, كانت عقلية الغزو والفتك والفيد تضيف لمسة الجنون على خيار مجنون أصلا. التطرق الى خصوصيات ومحرمات وحرمات لطالما اعتبرها اليمنيون –خصوصا- وغيرهم من المجتمعات والأمم جزءا من مقدس لا يُصار الى مسه ولو بالكلام مهما كانت الظروف والأحوال, هو ما ضاعف الأثر واستوقد نقمة ورفضا وإنكارا طبيعيا في نفوس وقلوب وعقول اليمنيين بأجمعهم, وينطبق هذا على قطاع واسع من المناصرين للمعارضة قبل غيرهم.
إزباد وإرعاد ناطق الإخوان والمشترك (قحطان) أضلته واستدرجته العزة الى “فعلة الإثم”, وكأنه استقال حينها من أشياء واعتبارات كثيرة وقيمة, قبل أن ينتقم من نفسه ومن معه.. ويحيل المعركة برمتها الى عقدة فرويدية مستحكمة, تستزل الرجال وتستذلهم الى درك أسفل سحيق.. فيصبح الشخص منهم مجرد عنوان لفندق من الدرجة العشرين تحت الصفر, أو غرفة نوم فيه!
فعلة مُنكرة كهذه كانت كفيلة بإزهاق أشياء كثيرة وتحطيمها في نفوس وضمائر اليمنيين, استفزت العامة والخاصة واستنفرت حمية الملايين الذين وصل بعضهم لا غير الى ميداني التحرير والسبعين؛ وكانت الطريقة الوحيدة والمباشرة للرد على الإساءة والإهانة هي النزول الى الميدان القريب من دار الرئاسة. ربما فكر البعض بانتظار أحدهم.. يتقدم جحافل الزاحفين ويطلبه دون سواه؟!
*الرئيس.. مجدداً
ظهر الرئيس علي عبدالله صالح في أفضل حالاته وهو يخاطب الحشود المليونية في جمعة التسامح على مقربة من دار الرئاسة ومقر إقامة الرئيس. الحشود الجماهيرية التي فاضت بها ساحات وميادين وشوارع التحرير والسبعين وما بينهما, كانت تخط في جمعة التسامح عنوانا جديرا, وتشق مسارات أخرى لأحداث الأزمة, وتكبح في المقابل الاتجاه التصعيدي المتصاعد للأحداث. بعد الجمعة كان كل شيء قد تغير. المعادلة برمتها انقلبت رأسا على عقب, ظهر عامل حاسم ما كان له إلا أن يفعل فعله ويعيد تقييم وتقديم خارطة المواقع والمواقف وعوامل القوة؛ بما يرسم واقعا مستجدا هو ابن الواقع وصورته التي غيّبت كثيرا عن الواجهة.
العامل الحاسم كان يرجح كفة الأغلبية الصامتة التي تحدثنا عنها كثيرا. لقد بدأت في التحرك والتحدث بطريقة عملانية. مشهد الجمعة أعادنا الى نقطة متقدمة جدا وأعاد الأزمة اليمنية ومآلات الصراع السياسي الى منطقة قريبة من البداية بقليل. هكذا تتجمع مسببات الخذلان والاحباط وينتصر الشارع بالشارع. بعدما كان الشارع عامل خوف وعنوان يسلكه السياسيون ويمتطيه المغامرون الى مآرب شتى.
*سلاح باليد
لم يكن الرئيس علي عبدالله صالح ليفوت دعما وتأييدا بهذا الحجم والصراحة؛ وبدهاء الممارس الخبير, التقط السلاح الأقوى والمشروع تماما وتناغم مع الحشود المؤيدة وأنتج خطابا سياسيا جديدا بلغة حازمة واستخدم جميع مواهبه وملكاته الكارزمية في هذه اللحظات باتجاه خصومه المتصلبين ومعارضيه المتشددين ومناوئيه الذين حسبوه لبعض الوقت قد نال منه الضعف واستنزفته عاديات الشهرين العاصفين الأخيرين.
وثب الرئيس كأنشط وأكفأ ما يكون. لعله حدث نفسه ساعتها: والآن جاء دوري, يكفي هدوءا وتنازلات لم تجد إلا رفضا واستضعافا. والأمر أوضح وأكمل من ذلك ظهر مع مقابلته لقناة العربية, حيث استوى الرئيس على حالة فضلى من الاستقرار الذهني والثقة وكفاءة المناورة وكان موفقا في الطرح الى حد بعيد.
الحق أن الرئيس خلال الأسابيع الماضية, على عنف أحداثها وسرعة عصفها وفجائية كثير من تحولاتها وضرباتها القاسية, مارس قدرا كبيرا من المرونة والصبر والتجاوب مع الأحداث والتطورات بسهولة تنبذ مساوئ الممانعة والتصلب والعناد.
قدم الرئيس صالح تجربة فذة ويجب الاعتراف بها في مجال إدارة الأزمات الصعبة. برغم كل شيء لم يفت ذلك في عضده. تماسكه وصموده لا غبار عليه, لن يشهد له بذلك أفضل من خصومه الذين أعجزهم استنزاله أو استنزافه. لكنه أيضا قدم تنازلات ومبادرات معتبرة لم يكن يتوقعها منه, أو مثلها, معارضوه الألداء. لابد وأنهم يكتشفون خلال هذه الأزمة جوانب جديدة في شخصية الرئيس الذي كان معلوما لهم بالخبرة الممتدة لأكثر من ثلاثين عاما. ويبدو أنه كان معلوما لهم.. بقدر ما كان مجهولا لديهم. ولأن الأمر كذلك كانت التنازلات والمبادرات مغرية بالمزيد من الغنائم, قوبلت بالرفض وتداعى الغرماء من كل موقع ومقام الى تحالف طارئ يستهدف إسقاط الرئيس. لأن التنازلات فهمت –خطأ- على أنها حصيلة الضعف والتضعضع, وإلا لما فعلها صالح!؟
هنا يقال: أخطأت المعارضة. وعليها أن تكتشف ذلك سريعا, لأن الوقت يمر, واليمن لن يظل رهنا بتصلب المعارضين أو تشدد المغامرين, أو حكرا على فئة احتكرت لنفسها سلطة السماء وإرادة الشعب وراحت تتحدث بهما وعنهما وتدير المعركة باعتبارها الممثل الوحيد لإرادة السماء وإرادة الشعب!
لولا هذا الافتئات والاستعلاء لما شاهد وسمع اليمنيون عبر الفضائيات وغيرها قادة معارضين يصفون احتشاد الملايين المؤيدة للرئيس في جمعة التسامح بأن هؤلاء إما “مأجورين” أو “جوعى يمكن استئجارهم بألف ريال للشخص” أو “جهلة لا يفقهون شيئا”!!
كلام كهذا –مستفز وغبي بلا حدود- قيل عبر أكثر من منبر. وهو يعني أن البعض لا يريد أن “يحسبها صح”, ويصر على خيلائه ويتجاهل رغبة ومشاعر وإرادة اليمنيين, بل ويهين جزءا كبيرا منهم عن طريق الاستهزاء والاستخفاف والاتهامات المستفزة.
من يفعل كل ذلك لا يمكن أن يؤتمن على “ثورة الشباب”. الثورة المسروقة من أصحابها, مهما كابرت وقيل غير ذلك. واضح, كم يجب التمييز بين الشباب, كأصحاب حق وفضل ومشروعية في إطلاق صوت الإصلاح والتغيير, وبين الأوصياء الذين تقاطروا على الساحة وحاصروا خيمة الشباب بخيام حُشد إليها آلاف المناصرين والقادمين بأسرهم بأوامر وتوجيهات صريحة حزبية ودينية وقبلية وغيرها.
ما يحدث الآن وخصوصا خلال الأسبوع الأخير في ساحة الاعتصام أو ساحة التغيير بصنعاء, من سجالات وتكتلات تتوالد بالعشرات وسباق محموم لإغراق الساحة بأغلبية جانبية في المسميات والهيئات والتكتلات… في مواجهة التكوينات الشابة التي بدأت في التبلور والتشكل, كل هذا وسواه يكشف المغيَّب من واقع الافتراس الحزبي للشباب, وإحكام القبضة والاستحواذ على مطالب التغيير وأحلام الثائرين المتعافين من التدجين والتلقين والتبعية.
*سيناريوهات مقروءة
والآن.. ثمة اتجاهات عدة للأزمة, وثمة من يعمل سرا وعلانية ومن وراء واجهات ووجاهات, على التمهيد لخطوات تصعيدية مجنونة تقطع الطريق على الحلول الممكنة وتعمل على حشد المواجهة نحو تفجير كبير وخطير للأوضاع عموما. هذه سيناريوهات متاحة ومقروءة تماما, وسواها حلول ناجعة وبأقل كلفة يتم صدها ورفضها, لأنها لا تحقق للبعض طموحاتهم وأهدافهم البعيدة والحقيقية وهي ليست –يقينا- ما يلتزم له الشباب ولا ما يقال لهم ويقدم في وجوه المشاهدين.
والى الآن والحلول المتاحة تلبي وزيادة مطالب الجميع, وفضلا عن هذا تلبي حاجة البلاد والشعب الى استعادة الهدوء وتأمين المصالح اليومية والضرورية للأسر في الحضر والريف, وتؤمن مخرجا فعليا يحفظ على اليمنيين وحدتهم النفسية والجغرافية ويدفع عنهم وعن بلادهم الشر ومآلات الفتن.
ومن الضروري والمهم تفهم متغيرات الأحداث, ضمانة لعدم الانجرار وراء تصلب يقود الى كوارث. من غير المقبول ولا العادل القول بأن الرئيس لم يقدم شيئا ويرفض الاستجابة لمطالب الشارع والشباب… وحتى الأحزاب. هذا خداع وتضليل لا يجوز القبول به أو الموافقة عليه, وهو يمكن أن يجرنا الى هزيمة جماعية وزرها في رقاب تجار البطولات وأمراء حروب كثر, مصلحتهم تكمن في تفجير الأوضاع ونسف احتمالات الانفراج!