من وحي مؤتمر الحوار
د. أحمد بن دغر
سأرجئ الإجابة على هذا السؤال إلى حين، وأنتقل مباشرة إلى مؤتمر الحوار ذاته الذي مثل بانعقاده بارقة أمل حقيقية في نظر المواطنين، وجميع المراقبين للخروج خروجاً حقيقياً ونهائياً من أتون الأزمة. وأقول بارقة أمل لأن أمام الوطن فسحة من الوقت، ومهلة من الزمن حتى تتحول الآمال إلى حقائق على الأرض، تغير واقعنا وتفرض نفسها كمسار ليس في مقدور أحد العدول عنه، أو الانقلاب عليه.
يدار الصراع الآن بصورة مختلفة، تغيرت الوسائل، اختار الفرقاء جانبها الأكثر أماناً، الحوار الوطني الشامل، إلا أن الصراع كحالة واقعية متعددة الوجوه مازال قائماً، هذا الصراع الذي تحول إلى قاعات الحوار عليه أن يبعدنا كلية عن الفتنة ومشاعر العنف والخوف من حرب أهلية كنا على مشارفها، وأن يضعنا على طريق السلام الدائم في بلدنا الموحدة.
في هذا الصراع أيضاً كل المتحاورين يحاولون تسجيل مواقف وتحقيق تطلعات، لكن الأحلام والتطلعات الواقعية المعبرة عن المجموع فقط هي التي ستتحقق، التطلعات المتحررة من رواسب الماضي، وغير المرتهنة للغير العابر للحدود. قاعة المؤتمر بدت كفسيفساء، تختزل كل الألوان حتى المتناثرة والمتصارعة منها، صور التقدم والتحول ومظاهر الماضي حاضرة، وكذلك ملامح المستقبل، والمشهد على بعضه وفي كليته يمني أصيل، لكنه في حالة تغير وتحول دون توقف كعادة كل شيء في الحياة. كانت البداية موفقة، كلمة الرئيس حملت مضامين مهمة ربما لم تعجب بعض الحاضرين، ولكن الغالبية الساحقة استقبلتها بحرارة، حينها كانت القاعة تغص بالرموز الوطنية والحضور العربي والدولي الذي بارك الخطوة، وشجع المترددين على المضي في العملية السلمية الذي يمثل المؤتمر (مؤتمر الحوار) وعاءها وإطارها المستند إلى المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية. في الأيام اللاحقة تحدث في جلسات المؤتمر قادة أحزاب ومنظمات وشخصيات وطنية مختلفة الانتماءات والمشارب، عبر الجميع عن رؤى مختلفة، وتبنى البعض سقوفاً عالية في النظر إلى الحلول المستقبلية وخاصة في القضية الجنوبية، وإلى حد ما قضية صعدة، وبناء الدولة.
هذا الأمر ليس معهوداً في تجربتنا، بدا وكأنه هذه المرة بتأثير من جرعات جديدة من الحرية أسبغت على تجربتنا التي نعجز حتى اللحظة عن ابتداع مفهوم شامل كامل يعبر عنها. سقوف الحرية في قاعات المؤتمر ارتفعت وعلت لدرجة فاقت كل التوقعات وذلك إما بفعل وتأثير النضال الوطني، وإما بقوة الإرادة، إرادة التغيير التي تبنتها مختلف القوى، ولكن بمناسيب مختلفة. أو بفعل إرادة دولية ما انفكت تلاحق إيقاعات الأزمة هبوطاً وصعوداً، وتحاول السيطرة على مجرياتها باحتواء الأفعال، وردود الأفعال تمادت وللأسف الشديد حد المساهمة في صياغة الوثائق الحاكمة والناظمة لمجرى الحوار، وأحياناً حتى في تفاصيله.
وهو الأمر الذي أتوقع أن يحظى بقدر متزايد من الانتقادات المباشرة وغير المباشرة في قاعات المؤتمر، أو في صفوف المراقبين. تراقب الجماهير ما يجري في القاعة، وأخشى أن يكون البعض من المتابعين مشدودين إلى التفاصيل أكثر من اهتمامهم بالسياق العام للأفكار التي تم التعبير عنها، إن نجاح المؤتمر في جانب منه يتوقف على الرقابة التي ستفرضها الجماهير على المتحاورين، على تجليات الموقف في عمومه وليس في جزئياته وتفاصيله.
في هذا السياق بدت الأمور أكثر وضوحاً فيما يتعلق بالرؤى والتصورات المستقبلية لشكل ومضمون الدولة المستقبلية القادمة.. يمكننا القول هنا إن شكل ومضمون الدولة القادمة سيتوقف على قدرتنا على تحويل نقاط الالتقاء عند المتخاصمين إلى مضامين جديدة لمجرى العملية الوطنية كلها. سمعنا مكون الحراك يطلب الانفصال، وحق تقرير المصير، وحديثاً آخر عن الفيدرالية بين شطرين أو أكثر، ومداخلات وتصريحات عن دولة اتحادية، رفع من أهميتها أنها قد غدت رؤية يتبناها أحد مكونات الحوار الرئيسية، لا نعرف تفاصيلها ولا يبدو أنه قد أقنع حلفاءه برغبته في طرحها، هذه المرة لم يتحدث هذا المكون عن الشراكة مع الشركاء، والشركاء ذاتهم لم يعيروا اهتماماً لهذا الأمر. مما يجعل احتمالات الاختلاف بين الحلفاء واردة، كما قد يفسح المجال لتباينات أو تحالفات جديدة، ففي القاعة هناك مشاورات، وهناك تبادل لأطراف الحديث بين رموز مهمة لمكونات المؤتمر. هذه الرؤى جميعها سوف تضفي حالة من الجدل وربما التوتر في المجموعات التسع التي انبثقت عنها الجلسة الأولى لمؤتمر الحوار، فكل مجموعة هي في الواقع مكون أصغر يحمل كل سمات وخصائص المكون الأكبر، يضاعف من ذلك أن جدلاً محتدماً لم يتوقف بعد حول الجيش، وهيكلته، وتواتر الأنباء عن تذمر بعض القادة في حالة إقدام الرئيس / عبد ربه منصور هادي على خطوات جديدة من شأنها أن تجعل للهيكلة معنى ميدانياً يحدد ملامح القيادة المباشرة لأفرع الجيش. سوف تصطدم هذه المجموعات، وخاصة مجموعة بناء الدولة بمسألتين أساسيتين، الأولى مسألة توزيع السلطات، وتحديد الاختصاصات على مستوى مركز الدولة وتكويناتها الأدنى، والثانية حول تقسيم وإدارة الثروة، وبالرغم مما يكتنف هاتين المسألتين من تعقيد، بدءاً بغموض المفاهيم، وانتهاءً بخلو التجربة الوطنية من أي ممارسات سابقة على نهج كهذا، فإنه لا مناص هنا من تهيئة المواقف المتباعدة للتنازلات المتبادلة،
ولا مناص هنا أيضاً من الاستعانة بالتجارب الناجحة لآخرين، فالتجارب الانسانية عدة في هذا المجال وقد أثمرت عن قوانين وأنظمة راسخة حققت قدراً من العدالة والمساواة لدى أصحابها. بالنسبة لنا في المؤتمر الشعبي العام مازلنا وسنبقى ننظر للوحدة اليمنية وأية وحدة عربية محتملة في المستقبل كمنجز عظيم ورافعة لا تستقيم أحلام الأمة ولا تتحقق إرادتها في التقدم والنهضة بدونها، لهذا فالوحدة في رؤيتنا قيمة في ذاتها، وهي قيمة عظيمة لا يدرك المغامرون أهميتها على صعيد الحاضر والمستقبل. أعود الآن إلى الإجابة على السؤال ماهي رؤية المؤتمر ازاء الدولة القادمة.. أقول رداً على هذا السؤال إنها في تقديرنا دولة مدنية، حديثة، ديمقراطية، ولامركزية، وهذا المفهوم الجديد الذي عبرت عنه بعض القوى الأخرى هو الذي سيحدد شكل ومضمون الدولة القادمة.
إن الدولة المركزية والتي صاغ شكلها ومضمونها دستور دولة الوحدة في أيامها الأولى قد تعرضت الآن لامتحان عسير عجزت عن الثبات والصمود أمام غوائل الزمن، تآكلت أو في طريقها للتآكل، وإن إعادة صياغة أسسها وبنيانها قد غدا حاجة وطنية وضرورة تاريخية لإنقاذ الوحدة ذاتها، وأن شكلاً من أشكال الدولة اللامركزية ينبغي التوافق عليه قبل فوات الأوان. قبل سنوات قليلة كنا نحتاج إلى حكم محلي واسع الصلاحيات.. الآن هذه المقولة لم تعد ذات قيمة، المزاج الوطني في الجنوب وفي مناطق أخرى من اليمن يلزمنا بالبحث عن صيغة حديثة لدولة تستوعب تجربة الماضي، وتفتح آفاقاً جديدة للتقدم.
صحيح أن المصطلح المركب « دولة مدنية، حديثة، ديمقراطية ولامركزية» يكتنفه بعض الغموض.. خاصة لجهة درجة اللامركزية المنشودة التي تستوعب التناقضات الحادة في المجتمع، وبنفس الوقت تحافظ على الدولة قائمة وقابلة للاستمرار والتطور والحضور كمعبر أعلى عن المصالح الوطنية.. هذا الغموض سوف تتكفل الأيام القادمة بجلائه وصقله وإزاحة ما علق أو يعلق به من غبار، لكن الأمر المؤكد أن هذا الموقف (موقف المؤتمر الشعبي العام) المدروس بعمق، والحريص كل الحرص على إنجازات عقود خمسة من النضال، وتجربة مثلت أملاً للأمة العربية، يقترب اكثر وأكثر من رؤى آخرين، كما انه يمثل انتصاراً جديداً لدولة الوحدة.
أكثر من ذلك فإن نبض الشارع اليمني بدأ يقترب أكثر فاكثر من هذا المفهوم.. أما وعي الناس بهذه القضية على عمقها وحداثتها في برامج القوى السياسية فمسألة أخرى.. كثيراً ما تسبق التحولات في الواقع المتغير وعي الناس، وقليلٌ من النخب هي التي تستطيع استشراف المستقبل. سوف يتطلب الأمر من النخب والقوى السياسية والثقافية والاجتماعية أن تصارح المؤيدين والأنصار بحقيقة تفكيرها، وخاصة تلك القوى التي نظرت ومازالت تنظر بازدراء للتجارب الإنسانية لنظم الحكم اللامركزية، وغالباً كانت هذه تجارب ناجحة ابتداءً من أشكالها البسيطة في الإدارة والسلطة المحلية، وانتهاءً بأشكالها الفيدرالية المعبر عنها في تجربة شعوب عظمى، وأمم عتيقة، وجماعات حديثة التكوين والوجود. هناك مقولة ثبتت صحتها على أرض الواقع تقول: إن الفيدرالية هي الصيغة الأكثر تكثيفاً للديمقراطية، فهي تحقق توزيعاً عادلاً للسلطة والثروة، وهو ما نحتاج إليه اليوم في اليمن، وما تحتاجه كل شعوب الأرض قاطبة. وبالتأكيد فإن المقصود هنا ليس فيدرالية بين شطرين أو طائفتين، هذه الأطروحات تحمل بذور الانفصال، وتذكي نار الفتنة الطائفية، ولذلك نرفضها بوضوح، ونحاول أن نبين لدعاتها أضرارها المحتملة.
يبدو أن علينا أن نتذكر مرة أخرى أنه لا توجد أنظمة سياسية دون مثالب، النظم الاتحادية، الفيدرالية، المركزية، البسيطة، المركبة، كل هذه النظم ذو قيمة فقط في ظروفه وفي البيئة التي يعمل بها. والنظام الفيدرالي الذي كثيراً ما نتحدث عنه من النظم الذي حمل في طياته ايجابيات وسلبيات، منافع ومضاراً، لكنه يحمل في ذات الوقت آلية داخلية خاصة به لتصحيح الاختلالات عند حدوثها. وأهم مميزات هذه الآلية هي المشاركة الواسعة للجماهير في إدارته.
نحن في مفترق طرق، وهذه الطرق قد تقاطعت مع بعضها البعض لدرجة التماهي والاختزال في طريق واحد هو طريق التسوية السياسية الذي بدا لنا ولغيرنا أنه الطريق الوحيد السالك. ولكي نمضي وتستمر التجربة في حالة من الثراء والإثراء المتجدد، نحتاج إلى أمرين أساسيين، الأول أن يتخلى البعض عن أطروحاتهم المتطرفة المناهضة للوحدة، والخارجة على الاجماع الوطني، والثاني أن يتقدم المحافظون بآرائهم نحو صيغة جديدة قابلة للتطور، قد لا تنسجم مع تجاربهم في الحياة، ولكنها الصيغة الوحيدة المتاحة للحفاظ على الدولة الموحدة، ولاحقاً للحفاظ على الوحدة، وحدة الأرض، والشعب اليمني.. ولا يمكن أن تأتي هذه الصيغة خارج هذه المفاهيم « دولة مدنية، حديثة، ديمقراطية، ولامركزية».