عبد العزيز عبد الغني.. الشهيد الحي

د. محمد حسين النظاري 

كلما جاءت الذكرى الأليمة لاستشهاد رجل اليمن الكبير –عبد العزيز عبد الغني- تذكرنا الجريمة الإرهابية لمسجد دار الرئاسة في يونيو 2011م، التي راح ضحيتها شهداء أبرار، وعلى رأسهم الأستاذ عبد العزيز عبد الغني –شهيدنا الحي- فقد مثل فراقه فُجَيعة لليمنيين اجمع ، ففي مثل هذه الأيام المباركات رحل عنا المغفور له بإذن الله تعالى شهيد اليمن الأستاذ الجليل عبد العزيز عبد الغني- وليس فقط بمدينة حيفان مديرية القبيطة محافظة تعز مسقط رأسه – فقد وافاه الأجل في هذه الليالي الفاضلة من العشر الأواخر من رمضان المكرم ،متأثرا بجراحه جراء العمل الإرهابي الغادر والجبان الذي استهدفه وهو في معية ربه يؤدي فرض صلاة الجمعة الأولى من شهر رجب الحرام، في مسجد النهدين بدار الرئاسة مع الأخ علي عبد الله صالح -رئيس الجمهورية السابق، رئيس المؤتمر الشعبي العام. 


 

لا أبالغ إن قلت بأن كل اليمنيين قد دخل الحزن بيتَ كُلٍّ منهم بلا استثناء ،لأن الأستاذ الفاضل عبد العزيز عبد الغني يُجمع الكل على حبه وتقديره صغيرا وكبيرا ،رجالا ونساء، عسكريين ومدنيين ،قبائل ومشايخ ،كتاب ومفكرين ،عمال وأساتذة جامعات ،ريفيين وحضريين ،بل ومعارضة قبل السلطة ،فأفراد الشعب المني قاطبة يُكنون له المودة والاحترام والتقدير ،وذلك للأدوار الكبيرة التي أداها – رحمه الله – في خدمة اليمن أرضا وشعبا وحكومة ،فهو من السياسيين المخضرمين في بلادنا، والذي ومنذ ولادته في 4 يوليو (تموز) من عام 1939 سعى لتلقي العلوم المختلفة، فقد تلقى يرحمه الله تعليمه الأولي بالكُتَّاب ثم التحق بكلية عدن ،وتخرج منها مدرساً في المدرسة المتوسطة في التواهي بعدن. ومع إشراق الثورة اليمنية الخالدة 26 سبتمبر 1962تخرج من كلية الاقتصاد من جامعة كولورادو الأميركية حيث كان يواصل تعليمه في الدراسات الجامعية ،وبعدها نال مؤهل الماجستير من نفس الكلية سنة 1964 بعد قيام ثورة 14 من أكتوبر المجيدة بسنة واحدة ،ليكون بذلك من أوائل المتعلمين اليمنيين في الشطرين ،والذي نقل تجربة دراسته على ارض الواقع، حيث تدرج في مختلف الوظائف والأدوار التعليمية فعمل مدرساً بعد أن نال الماجستير لمادة اللغة الانجليزية والعلوم الاجتماعية والتجارية في كلية بلقيس بعدن منذ عام 1964 حتى سنة 1967.
ودخل رحمه الله عالم السياسة بتعيينه وزيراً للصحة في نوفمبر عام 1967 وحتى يناير عام 1968،ومن ثم شغل مديراً في البنك اليمني للإنشاء والتعمير وعُين بعدها وزيراً للاقتصاد في سبتمبر عام 1968 وحتى ابريل عام 1969. وتقلد بعد ذلك منصب رئيس المكتب الفني للمجلس الأعلى للتخطيط حتى يناير 1970، حيث عين مرة أخرى وزيراً للاقتصاد في ابريل وحتى أغسطس عام 1971 ،كما تقلد منصب محافظ البنك المركزي اليمني في أغسطس 1971 وحتى يناير عام 1975. 

تسلم مقاليد رئاسة الوزراء في 23 يناير 1975 بعد أن تولى الرئيس الشهيد المقدم إبراهيم الحمدي والذي قال عنه حينها : سأكلف رجلا لم يعرف في عالم السياسة ولكنه رجل عُرف بنزاهته وعلمه ،وقد استمر – رحمه الله – في شغل منصب رئيس الحكومة حتى عام 1978، وهو التاريخ الذي تسلم قيادة البلاد فيه ابن اليمن البار فخامة الرئيس علي عبد الله صالح – حفظه الله وشفاه وسدد على طريق الخير خُطاه – وجميع المصابين من أبناء هذا الوطن الغالي . 

وكما كان – رحمه الله – مناضلاً في الشطر الشمالي من الوطن ،كان من بين الذين أسسوا للوحدة اليمنية المباركة وعدوا لها وناضلوا من اجل تحقيقها ،وبعد اعلان قيام الجمهورية اليمنية عين عضواً في مجلس الرئاسة في 22 مايو ،ثم تم تكليفه برئاسة الوزراء في 1994، والتي استمرت حتى انتخابات ابريل عام 1997 . وختم رحمه الله خدمته لوطنه وأمته بتولي منصب رئيس المجلس الاستشاري الذي انتهت فترته الدستورية والقانونية بإقرار التعديلات الدستورية في فبراير 2001، ليتحول إلى مجلس الشورى الذي تولى رئاسته أيضاً حتى وفاته يرحمه الله. (عبر من حياته يرحمه الله)… كان من بين الرجال القلائل الذين خدموا اليمن في ظل أكثر من رئيس دولة ،وكان أيضا من ضمن القلائل الذين شاركوا في رئاسة الحكومة قبل وبعد الوحدة المباركة ،فيما كان من الرجال النادرين جدا الذين عملوا في كل مرافق الدولة السياسية والاقتصادية والتعليمية ،فعمل مدرساً ووزيرا ،ومحافظاً للبنك المركزي ،ورئيسا للوزراء ،ورئيسا للمجلس الاستشاري ولمجلس الشورى ،وعضوا في مجلس الرئاسة ،بحيث انه لم يترك مكانا يستطيع فيه خدمة أبناء شعبه إلا وعمل فيه بصمت وبعيدا عن بهرجة الأضواء ،ظل في جميع هذه المناصب محافظا على ابتسامته الهادئة الغير متكلف فيها، يتحدث في النادر ولكنه حديث يلامس الحقائق ويضع الحلول ويرسم الاستراتيجيات .

ورغم طيلة فترة عمله بالدولة وتقلده لأرفع المناصب ،لم يعرف عنه – رحمه الله – أي مظاهر للفساد والإفساد ،فقد كان بعيدا عن الشللية والقبلية والمناطقية ،وكان نظيف اليد ،ولم يلوثها بأخذ الأموال العامة ولا بنهب أراضي الدولة ناهيك عن ممتلكات المواطنين ،ولم يقم بإذلال البسطاء والتكبر على المساكين، ولهذا فإننا نعزي الوطن قبل المواطنين في وفاة رجل كهذا، فقدته الأمة اليمنية ،وخسرت برحيله احد اشرف أبناءها الأوفياء، الواقفين إلى صف الشرعية الدستورية ،واحد الذين لم يحيدوا قيد أنملة عن الحفاظ على امن واستقرار ووحدة الجمهورية اليمنية . إن خسارة الوطن كبيرة وخسارة الأخ الرئيس لا يعادلها خسارة،فقدْ فقدَّ فخامته أخا عند المحن وصديقا عند الشدائد،وصدوقا عند الملمات ،وحكيما عند احتدام الفتن ،ومترفعا عن صغائر الأمور ،إن خسارته لكبيرة برحيل رفق دربه ،والذي أعانه على الارتقاء بالخدمات العامة للمواطن ،وفي إرساء الديمقراطية ،وتحقيق الوحدة ،وفي الدفاع عنها ،ولم يجد منه – رحمه الله – إلا الوفاء والتضحية والعطاء والبذل. 
لنتعلم من حياة شهيدنا رحمة الله عليه ،العلم والعمل الصادق ،فلم يصل – رحمه الله – إلى ما وصل إليه بفضل قبيلته ،ولا برفعة أسرته ،ولا بثقل وساطته ،ولكنه وصل بعلمه وتفانيه وإخلاصه ،لقد كان أنموذجا في رجل الدولة الذي يوصله علمه إلى حيث يجب أن يكون ،وعندما وصل لم يكن مختالا ولا متعاليا ومتكبرا ،ولم يستقوي بسلطته على من هم دونه ليقهرهم ،بل كان أخاً لمن يُقارنهم ،وأباً لمن هم دونه ،وابناً لمن هم اكبر منه ،وبهذا كله استحق محبة الجميع بلا استثناء، فعزاؤنا في شهيد الوطن الكبير أن روحه الطاهرة أسلمت نفسها لبارئها وهي بالقرب من البقاع المقدسة ،وأنها انتقلت لربها متأثرة بالقتل العمد الذي طالها غدرا وهي تؤدي صلاتها لمولاها عزَّ وجل. وعزاؤنا أيضا فيه انه كان مثالا في الرجل الصادق الصدوق ،المتفاني في عمله المخلص في أدائه ،وانه كان والى آخر لحظة في حياته ثابت على مبادئه الوطنية،مؤمن بالله وبرسوله وبصف ولي أمره ،وموقن بأن قدر اليمن مع الحوار ،وان قضاياه لا يمكن أن تُحل ألا بالتفاهم تحت سقف دولة الجمهورية اليمنية.. فرحم الله شهيدنا وتغمده بواسع رحمته ونحن نعيش الذكرى الثالثة لرحيله، وجعله من المعتوقين من النار في هذه الليالي المباركات ،والهم الوطن وقيادته وأهله ومحبيه الصبر والسلوان ،وإنا لله وإنا إليه راجعون. 
أستاذ مساعد بجامعة البيضاء



Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *