عبد الغني وداعا أيها الجمهوري العملاق
بقلم / فيصل جلول
ما كنت أشك أبدا أن صديقي الشهيد عبد العزيز عبد الغني لن يقرأ أبدا نص التهنئة بالسلامة الذي كتبته على حائطه في الفيس بوك عندما بلغني نبأ انفجار “مسجد النهدين”.ما كنت أشك أن إصابته بالغة إلى هذا الحد وذلك رغم القلق الذي أبداه احد الأصدقاء ممن هاتفتهم بعيد الحادث للاستنكار والادانة وللاطمئنان إلى صحة وسلامة المصابين .استدرك محاوري على السماعة الأخرى مرددا….
يقال أن إصابة الإستاذ عبد العزيز عبد الغني قوية..شفاه الله…رغم هذا الوصف المتشائم لم يساورني شك في ان الشهيد سينتصر على محنته وسيعود إلى صنعاء التي ما كان يطيب له العيش في ربوع مدينة غيرها. .
وإذ طال انتظار الرد على عبارتي ظننت أن التأخر طارىء وأنني لا بد أن أفاجأ ذات يوم برد مطمئن من طرفه, ولعل عنادي و إصراري كان ناجما عن بداهة ضمنية ربما كامنة في لاوعيي من أن هذا الرجل الكبير لن يغيب بفعل المتفجرات وانه أقوى من أن تتغلب عليه كل مفرقعات العالم وكنت مصرا على هذه القناعة إلى حد أنني لم أصدق النبأ الرسمي الذي أذيع عن وفاته معتقدا انه ينطوي على خطأ ما إلى أن هاتفت صديقا في صنعاء فأكد لي حقيقة المصاب الأليم فاجتاحني حزن غاضب وما زال.
كان الراحل من النوع الذي لا تشك لحظة في انه يعاني من متاعب صحية أو انه من الذين سيمضون قبل فوات الأوان (هل من أوان ؟ ) علما أن أحدا ليس مخلدا في هذا الكون الفاني وان كل نفس ذائقة الموت .. رغم ذلك كان يساورني انطباع أن هذا الرجل مصفح ضد المخاطر والمتاعب.لم أره يوما ممتعضا بقوة أو غاضبا او متوترا أو مستفزا. لم يشك يوما من شيء أو من احد وان كره أو رفض أو امتعض أو انتقد فانه قادر على أن ينقل إليك شعوره بهدوء وبعبارات عقلانية، ودون ضجيج أو عدوانية..كان بالكاد يتحدث بصوت عال دون أن يمنعه ذلك من أن يرسل عبارات مدوية في قوتها ومعناها عندما يتطلب الأمر موقفا قويا ورأيا حكيما أو اعتراضا قاطعا أو مواجهة شجاعة.
لم أره يوما مقطب الحاجبين.كانت ابتسامته الأبدية جزءا من طلته الدائمة في كل وقت وفي كل ظرف وفي كل مكان لا فرق إن صادفته في صنعاء او تعز او بيروت او باريس او عمان…. وإذ يطلق العنان لضحكة صاخبة فلا بد أن يكون الأمر متصلا بطرفة ذكية يضحك لها ثم يبادرك بطرفة مقابلة يضحك بعد أن يرويها حتى تكاد الدموع تنفر من عينه.
وبخلاف الانطباع السطحي ما كان عبد العزيز عبد الغني مساوما في مواقفه ومبادئه ولا يتهاون في احترام خطوط حمر رسمها بنفسه لأخلاقه السياسية.. وإذا كان صحيحا انه عمل مع كل العهود الجمهورية وبالتالي لم يعاقبه عهد وافد على أفعال سابقة، فهذه حجة له وليست عليه ذلك انه كما قال لي ذات يوم ردا على هذا التساؤل ” .. لقد أراد جيلنا الجمهورية وقاتلنا من اجلها وعندما حصلنا عليها صار لزاما علينا أن نبذل كل جهد ممكن لبنائها وهذا لا يتم عبر الامتناع عن خدمة البلاد في هذا الموقع الحكومي أو ذاك، في هذا العهد أو ذاك, لقد كانت الجمهورية حدا فاصلا بالنسبة لي وكان لا بد من نصرتها في كل عهد خصوصا أنها تجربة فتية وبالتالي لا بد من دعمها حتى تصبح منيعة وعصية على الكسر”.
بهذا المعنى كان عبد العزيز عبد الغني جمهوريا أولا وأخيرا وبالتالي ما كانت تغريه نزاعات الجمهوريين الشخصية ولا تقلبات عهودهم. وحتى ندرك عمق هذا الموقف لا بد من الإشارة إلى المعاناة التي تكبدها هذا الرجل وأسرته والعديد من زملائه في العهد الإمامي حتى صار الخلاص من هذا العهد حلما لا يوازيه حلم بيد أن لموقفه من الامامية رواية جديرة بالاشارة وكنت قد تحدثت عنها مفصلا في مقال بعنوان “العفو العقاري”نشرته في هذه الزاوية في 29 سبتمبر ـ أيلول عام 2005 وجاء فيه :
الدكتور عبد العزيز عبد الغني معروف بتحفظه و بلباقته وحرصه على اختيار تعابيره بدقة لدى التطرق إلى مواضيع معينة مع ضيوفه، لكنه فاجأني ذات يوم في منزله بحديث منطلق بعيد عن اللغة الاصطلاحية عبر خلاله عن معاناته الفظيعة في طفولته من النظام الإمامي. لم يطلق أحكاماً ولم يستخدم مسلمات أيديولوجية ولم يجر مفاضلة نظرية بين الملكية والجمهورية، كان يروي فقط حياته اليومية وحياة البيئة التي ترعرع في ظلها وروايته جديرة بأن توثق وتنشر كوثيقة كاشفة لفظاعة عهدٍ مضى مرة واحدة والى الأبد .لن أعرض ما رواه الدكتور عبد العزيز عبد الغني في تلك الجلسة الخاصة رغم أن مروياته لا تنطوي على أسرار خطيرة سوى وجهها الشخصي الذي يتوجب احترامه في مقام هذا الحديث الموجه للعموم.والغرض من إشارتي إلى تلك الجلسة يكمن في الوقوف على قدرة رئيس مجلس الشورى على التمييز بين الخلاص الوطني من نظام الحق أذى يفوق الوصف باليمن واليمنيين وبين المصلحة الوطنية الجمهورية التي اقتضت خطوة رمزية شأن إعادة ممتلكات لقبضة من ورثة آل حميد الدين في سياق انفراج محلي وإقليمي.
قال الدكتور عبد الغني حرفياًَ “…هذه الخطوة إنما تعبر عن نضج الثورة وتجذرها في ضمير ووجدان شعبنا اليمني، فبعد ثلاثة وأربعين عاماً أصبح نحو خمسة وسبعين بالمائة من سكان اليمن ينتمون إلى جيل الثورة، والتي يمكن القول إن أهدافها الستة قد تحققت، وفي الطليعة منها إعادة تحقيق وحدة الوطن بقيادة فخامة الرئيس علي عبدالله صالح. ولكل ما سبق فإنني اعتبر قرار فخامة الرئيس بإعادة ممتلكات بيت حميد الدين قراراً طبيعياً جداً، وقراراً حكيما.. ” انتهت الإشارة.
ويبقى التواضع فضيلة سياسية مميزة لدى هذا الجمهوري العملاق ..وهنا اسمح لنفسي بان اروي عن لسانه في جلسة خاصة ظروف تعيينه رئيسا للوزراء للمرة الأولى :”.. علمت بأمر تعييني رئيسا للوزراء للمرة الاولى بصورة مفاجئة لم أكن أتوقعها وغمرني السرور بيد أن ذلك لم يمنعني من توجيه السؤال للحمدي:… وهل تظن أنني أصلح لهذا المنصب؟ فقال لي وهل تظن أنني أصلح أنا أيضا لمنصب الرئيس؟ . أنت مثلي وأنا مثلك كل منا يخدم بلده من الموقع الذي يحتله وبقدر ما يكون الموقع كبيرا تكون الخدمة كبيرة “.
عبد العزيز عبد الغني قتلته الفئة الضالة. ولعل الإخلاص لذكراه يستدعي البحث عن قتلته ومحاكمتهم تحت قوس العدالة وفي ظل القوانين السائدة التي لها وحدها الحق في معاقبة القتلة والاقتصاص منهم. وما لم تكلل هذه المهمة بالنجاح فان رئيس مجلس الشورى اليمنى يقتل مرتين وربما كل يوم.. عبد العزيز عبد الغني.. وداعا أيها الصديق الجمهوري العملاق.
ختاما أتوجه بتعازي الحارة بهذا المصاب الوطني الأليم لفخامة الرئيس علي عبد الله صالح و مسؤولي الدولة اليمنية ورفاق الشهيد في المؤتمر الشعبي العام وسائر أفراد الشعب اليمني.
كما أتوجه بتعزية خاصة لأسرته الكريمة وعلى رأسها نجله الأكبر محمد وجميع أفراد عائلته وأهله في مدينة تعز العزيزة.